واقعة أبو غريب الفلسطينية .. فى حى الشجاعية

كان من الممكن أن يكون مشهد الفلسطينيين معتادا عندما وقفوا شبه عرايا علي الحدود الفلسطينية - الإسرائيلية، وأيديهم خلف ظهورهم معقودة بحبال من البلاستيك، كما كانت المشاهد الشهيرة التي تسربت من سجن «أبو غريب» العراقي الذي شهد فيه العراقيون أنواعا من التعذيب يندي لها جبين العالم المتحضر.

هذه المرة كان من الممكن أن يكون الأمر معتادا لولا أن هؤلاء الفلسطينيين لم يكونوا أسري لدي القوات الإسرائيلية، كما أنهم لم يتم تجميعهم من خلال عملية تفتيش غاشمة بحثا عن عمليات للمقاومة، بل إن أحدا في إسرائيل لم يقل إن المقبوض عليهم كانوا علي لائحة المتهمين الذين تبحث عنهم الدولة الصهيونية.

هؤلاء كانوا فلسطينيين أحراراً قرروا الذهاب بإرادتهم الحرة إلي إسرائيل هربا من نير جماعة حماس وسجونها وتعذيبها، حتي بدا أن إسرائيل التي قبضت عليهم فور عبور الحدود سوف تكون أكثر رحمة بهم من الشقيق الفلسطيني.

وهو ما يبدو أنه قد حدث فعلا عندما قامت إسرائيل بعد التحقيق والتفتيش بتسليم كوادر حركة فتح إلي السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية.

فما الذي يجري في فلسطين أيها السادة؟ فعلي مدي العقود الستة الماضية جري في عروق المصريين والعرب أن قضية فلسطين ليست فقط قضية العرب المركزية، ولكنها القضية التي بدون تسويتها لا يكون للعرب وجود أو شرف أو مكانة. ولدي بعض المصريين والعرب فقد كان قرار تحرير فلسطين من القرارات التي ينبغي لها أن تسبق كل القرارات الأخري.

وبشكل من الأشكال بات مستحيلا في معظم البلاد العربية حدوث مناقشة جادة لقضايا التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي ما لم يتم حشر قضية فلسطين و«العدو الإسرائيلي» في منتصف الكلام. وبات محرما علي الجميع الحديث عن اقتصاد السوق لأن هذه النوعية من الاقتصادات شائعة بين الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة، وكلها حليفة أو متواطئة مع إسرائيل.

وباختصار، فإن ثنائية فلسطين وإسرائيل باتت حاكمة لحياتنا كلها، ومعها تم افتراض أن هناك جسدا فلسطينيا نبيلا وقع ضحية الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وقوي غاشمة لا يُعرف لها أول أو آخر.

وبشكل أو بآخر تكوَّن شعور دائم لدي كل العرب بالذنب والخطيئة لأنهم عاجزون عن تحرير فلسطين، والذود عن الفلسطينيين، ومواجهة الإسرائيليين الذين لا يكفون عن العدوان والاستيطان. ولكن المسألة كان لها دائما وجه آخر، فعلي خلاف جميع حركات التحرر الوطني العربية فإن الحركة الفلسطينية لم تكن أقلها قدرة علي الإنجاز، ولكنها كانت أكثرها قسوة علي بعضها البعض.

وفي الحياة العربية فإن «القسوة» اللفظية ليست من الأمور المستبعدة، فالاتهام بالخيانة والعمالة والتآمر كان دوما جزءا بارزا في الخطاب العربي والفلسطيني العام. ولكن الحركة الوطنية الفلسطينية أضافت بعدا آخر هو التصفية الجسدية، وفي وقت من الأوقات نشبت المعارك في بيروت بين جماعات فلسطينية تفرقت ولاءاتها، والآن فإن العملية برمتها باتت جزءا من الحياة الفلسطينية.

والحقيقة أن حركة «حماس» أخذت النخبة الفلسطينية كلها معها إلي سحيق الهاوية، فأجهزتها الإعلامية والتليفزيونية كانت دوما من القوة التي تجعلها توزع الخيانة و«المشروع الصهيوني- الأمريكي» علي كل العرب، ولكنها خصَّت الفلسطينيين منهم بمكانة خاصة، جزاؤها الموت والتعذيب والسجن والمطاردة والإذلال إلي الدرجة التي باتت فيها إسرائيل علي عدوانيتها وجرائمها أكثر رحمة وقبولا من الفلسطينيين.

وهكذا لم تكتف حركة حماس بالانقلاب علي السلطة الوطنية الشرعية، ولم تنته بعملية تدمير كل أشكال السلطة الوطنية في غزة، ولم ترض بشق الصف الفلسطيني كل يوم، ولكنها فوق ذلك بدأت في عمليات اضطهاد واسعة النطاق لكل أعضاء حركة فتح حتي أخذ اليأس بهؤلاء إلي إسرائيل.

المدهش في الأمر أن كل ذلك جري بينما الطبقة الثقافية والفكرية والإعلامية العربية - والمصرية أيضا- صامتة خوفا من الاتهام بالانضمام إلي المشروع الصهيوني- الأمريكي، أو خوفا من الاتهام بتكدير جماعة المقاومة الباقية في العالم العربي، حتي ولو لم تكن هناك مقاومة علي الإطلاق، وأن أكثر ما ترغب فيه حماس هو كامل التهدئة مع إسرائيل، وكامل الحرب علي الفلسطينيين المعارضين لها!!

بقلم / د.عبدالمنعم سعيد